جونيتشيرو تانيزاكي أحد أشهر روائيّي القرن العشرين، هو واحد من آباء فن الرواية اليابانيّ الحديث، يتحدث في رواية “البعض يحبون الشّوك” في ظاهرها، تحكي قصّة طلاق زوجين، بعد سنوات من الانفصال الجسديّ بينهما، ولكنّها في الحقيقة تسرد حكايةً أكبر من ذلك بكثير، فهي تحمل جزءاً من قصّة حياة كاتبها تانيزاكي، وجزءاً من بحث الفرد اليابانيّ في تلك الفترة عن توازن بين الحداثة الغربية والتقاليد اليابانيّة.
المترجم Edward Seidensticker، الذي قدم العديد من تراجم النصوص اليابانية إلى الإنجليزيّة في حقبة ما بعد الحرب العالميّة الثانية، وهو من اختار العنوان “Some Prefer Nettles” بدلاً من الترجمة الحرفيّة للعنوان اليابانيّ “Water pepper-eating bugs” الذي يجتزئ المقولة اليابانيّة “Water pepper-eating bugs eat it willingly”.
يمكن ترجمة هذه المقولة إلى “الحشرات التي تأكل الفلفل تأكلها بإرادتها” والذي يعني بالعامّية العربية “كلّ عنزة معلّقة من كرعوبها” أو النسخة الفصيحة “كل شاة معلقة بكراعها” من نفس المثل. والذي يعني أنّ كل شخص مسؤول عن أفعاله وخياراته.
ترجمة العنوان في النسخة العربيّة مبنيّة على النسخة الإنجليزية، ولا يبدو أنّ المترجم العربيّ قد وضع في اختيار العنوان ربع الجهد الذي وضعه المترجم الإنجليزيّ، الذي حاول التوفيق بين المعنى الدالّ على الجزء الأول من المثل، والصياغة الأصليّة للمثل اليابانيّ.
بأيّ حال، قرأت الرواية بترجمتها الإنجليزيّة المتوافرة لديّ، لذا لا يمكنني الحكم على الترجمة العربيّة بالكامل، وفي الأصل، الطبعة الإنجليزيّة الموجودة لديّ لم تكن ممتازة، على الرغم من كونها مفهومة بالمجمل وكون الإجتهاد في إيصال المعنى الصحيح المقصود كان واضحاً جداً فيها، إلّا أنها تضمنت العديد من المشاكل في علامات الترقيم وتنسيق جسد النص واختيار فواصل الأسطر.
بأيّ حال، في ملاحظات المترجم الموجودة في بداية الرواية، والتي سأستشهد فيها كثيراً في هذا المقال، ذكر المترجم صعوبةً ترجمتها، ونقلها إلى الإنجليزيّة، لماذا؟ حسناً، هذا ما أريد الحديث عنه كبداية.
الإبهام والمعاني المزدوجة
يشير المترجم في مقدّمته وتحليله للعمل إلى الفرق الرئيسيّ بين اليابانيّة والإنجليزيّة، الفرق الذي يجعل اليابانية برأيه -على الأقل في تلك الحقبة- غير قابلة أو عصيّة على الترجمة في أغلب الأحيان، وتحتاج تفاعلاً كبيراً من المترجم وفهماً معمّقاً للنص أكثر من المعتاد، وهذا الفرق هو كون اللغة اليابانيّة لغة “مرادفات” ومعانٍ مزدوجة، بينما اللغة الإنجليزية لغةً واضحة المعاني.
تانيزاكي نفسه يعتنق هذا الجانب المبهم من اللغة اليابانيّة، ليس فقط في كتابته بل بطريقة سرده للأحداث وعرضه للقصّة، فنهاية هذه الرواية “مقطوعة” إن صح التعبير، في مرحلة مهمّة جداً وقبل كشف هام، وانتقاله بين الفصول يكسر الأحداث بشكل مقصود، وهذا ما يندر العثور عليه في الروايات الحديثة.
يلخص تانيزاكي فلسفته بقوله أنّ “الكاتب الحديث يتعامل مع قارئه بلطف زائد […] نحن اليابانيّون نكره الحقائق المجرّدة، ونرى أنّه من الأفضل والأجمل الإبقاء على فاصل رفيع جداً بين الغرض والكلمة التي تعبّر عنه.” وعندما انتُقد أنّه لا يستعرض الجوانب النفسيّة لشخصيّاته، أجاب بسؤاله “ولماذا عليّ نقاش الحالة النفسيّة؟ ألا يمكن للقارئ استنتاج هذا مما قلته له في النصّ؟”.
وفي الحقيقة، على الرغم من أنّه انتٌقد على هذا، إلا أنني أراه استخدم هذا الأسلوب في الإبهام وتجنّب الخوض في الحوارات النفسيّة للشخصيّة الرئيسية بشكل ممتاز في هذه الرواية، وهذا برأيي يضيف للمكافأة التي يقدّمها الكاتب للقارئ المهتمّ بالنص، القادر على ربط الأحداث بنفسه وملئ الفراغات.
ولكن، ما يثير اهتمامي بهذا أنّ الرواية نفسها، على الرغم من سردها المبهم، واعتمادها كسر الأحداث المقصود، وترك الكثير من أحداثها لتفسير القارئ، هي رواية أوتوبايوغرافيّة، تسرد أجزاء من حياة الكاتب، الذي طلّق زوجته بعد سنوات قليلة من نشرها بطريقة مشابهة جدّاً للطريقة التي جرى فيها طلاق الشخصية الرئيسية في الرواية عن زوجته، وهذا يقودني إلى نقطتي التالية، التناقض الموجود في هذه الرواية.
الماضي والحاضر، الإبهام والوضوح
تستعرض الرواية فترة ما بعد انفتاح اليابان على العالم، بعد سنوات طويلة من الحضارة المغلقة التي لا تسمح للأجانب بالغوص في أعماقها، في تلك الفترة، كانت مرحلة انتقال الفرد اليابانيّ من التقليديّة إلى الحداثة، سواء بطريقة العيش أو بالفلسفة الحياتيّة أو بالفنّ.
يخوض كانامي، بطل هذه الرواية، هذا الصراع، بين انجذابه لمفهوم العلاقات الغربيّ، الذي يسمح بالطلاق والانفصال بسهولة أكبر بكثير مقارنة بالمفهوم اليابانيّ التقليديّ الأكثر تحفّظاً، وبين إعجابه بأسلوب حياة عمّه (زوج والدته) التقليديّ، والغيشا التي ترافقه، وبين معشوقته الأجنبيّة التي لا تمتلك من صفات اليابانيّين إلّا اللغة واللهجة.
يظهر هذا التناقض في كلّ شيء موجود في حياة كانامي، فمنزله يتضمن جناحاً يابانيّاً وآخر غربيّ، وزوجته اليابانيّة التقليديّة التي يعيش معها مجبراً، ومعشوقته الغربيّة التي يختار الذهاب إليها كلّما دعت الحاجة، ليعود بعد ليلته معها إلى منزله “مهزوماً” إن صحّ التعبير، عازماً على عدم العودة إليها على الرغم من أنّه يعلم أنّه سيعود مهما حاول.
الغيشا وفنادق الحب، الهواتف والرسائل المكتوبة، السينما ومسارح الدمى التقليديّة، القماش المعتّق الذي ترتديه أوهيسا والملابس “العصرية” التي ترتديها ميساكو، والمطبوعات الحديثة مقابل الكتب اليابانيّة الخشبيّة القديمة، التقابل بين الماضي والحاضر موجود في كلّ مكان في هذه الرواية، واختيار الحقبة التي تجري فيها الأحداث كان مثالياً لعرض هذا.
وفي نهاية القصّة، لا يصل كانامي لحلّ حقيقيّ لهذا الصراع، على الرغم من إعجابه بالليلة التي أمضاها في بيت عمّه التقليديّ، مع الغيشا التي أحضرت له الطعام، وجهّزت له الحمام، وجلبت له الكتب الخشبية القديمة إلى السرير، إلّا أنّ كلّ هذا كان مغلّفاً برؤيته لهذه المتعة على أنّها “مؤقّتة” وأنّها يفضّلها “من الحين للآخر” وليس دائماً. حتى الدمية التي تمحور حولها جزء كبير من الرواية، تظهر على أنّها “من آخر الدمى” – معلنة بداية نهاية الحياة اليابانية التقليديّة.
بحسب ما أرى، كانامي، يحاول التوفيق بين العالمين في حياته دون أن ينجح، وهذا ما تحاول زوجته القيام به أيضاً، كلاهما يمتلكان “غلافاً” غربيّاً بحسب تعبير بقيّة الشخصيات التي تصفهم خلال القصّة، وهذا الغلاف الغربيّ لكونه لا يتعدّى حقيقة أنّه مجرّد غلاف، يمنعهم طوال الرواية من أخذ القرار بالانفصال، واعتناق الجانب الغربيّ، أو البقاء سويّة ورفض هذا الجانب.
على السطح بأيّ حال، كانامي يظهر بصورة المذنب، على الأقل عند النظر لأحداث الرواية من زاوية الزوجة التي دٌفعت إلى “الخيانة” بسبب جموده، وعند رؤيته مرتاحاً في كلّ مرة يقترب فيها إلى الطلاق والانفصال. وطوال الرواية، يحاول الكاتب التلميح إلى هذا الذنب، وهذه “السلبيّة” حول كانامي، ويظهرها في ردّة فعل تاكاناتسو ابن عمّه على الموضوع كلّه.
المثير للاهتمام، أن تانيزاكي بنى شخصيّة كانامي وأحداث الرواية بشكل كبير على ذاته، لدرجة يمكن اعتبار هذه الرواية فيها جزءاً من سيرته الذاتيّة، ولكن على عكس الكثير من المؤلّفين الذين يميلون إلى ترك “صفة جذّابة” وحيدة على الأقل في الشخصيات التي تميّزهم، تانيزاكي يلقى اللوم بأكمله على كانامي، ويظهره بطريقة لا ترحم.
تانيزاكي نفسه الذي يفضّل الإبهام في اللغة، كتب رواية عن شخصيّة تشبهه بأسوأ الطرق الممكنة، وعرض جزءاً من شخصيّته فيها، وحاول الحديث عن مشكلة خاصّة في حياته من خلالها، وبعد سنوات أثبت صحّة هذا عندما خاض طلاقه الشخصيّ مع زوجته بظروف مشابهة. هذا التناقض أيضاً مثير للاهتمام.
على السّطح
بترك كلّ تفسيرات الرواية جانباً، طريقة السرد المستخدمة فيها برأيي تستحق فرصة حتّى لغير المهتمّين بالأدب اليابانيّ عموماً، وعلى الرغم من كونها بعيدة جدّاً عمّا يمكنك العثور عليه في الأدب الحديث، أو حتّى في الأدب الإنجليزيّ من تلك الفترة، تبقى الرواية قادرة على شدّك حتّى النهاية بسبب الطريقة التي تختلف فيها الحوارات باختلاف الظروف، وبسبب عرض جوانب ثقافية من تلك الحقبة كما رآها من عاشها، ليس كما تظهر في كتب التاريخ.
من ناحية، الرواية تستعرض حادثاً دراميّاً محزناً، ولكن من ناحية أخرى لا تحاول استثارة مشاعرك للتفاعل مع هذا الحادث، بل تتعامل معه بطريقة طبيعيّة، بأسلوب أقرب إلى أعمال “شريحة من الحياة” التي نراها في الفن اليابانيّ اليوم، التي تستعرض الحياة اليوميّة لشخصيات بهدوء، دون الاستعجال للوصول إلى قلب الموضوع.
في كثير من الأحيان، جلست مبتسماً وساخراً ومتعجّباً من أسلوب تعامل الشخصيات مع ما يجري من أحداث، وبعد تفكير في الأمر، هذا ما يجب أن يكون، الطريقة الطبيعيّة في التعامل مع كلّ شيء في هذه الرواية، واستعراض “مشاكل العالم الأوّل” على ما هي عليه، دون المبالغة في تضخيمها دراميّاً، والإشارة إلى “الدراميّة” بشكل واعٍ على لسان شخصيّات القصّة عندما تحدث فعلاً، واعتبارها أمراً مستهجناً، كلّ هذا جعل التجربة مقبولة، على الرغم من هدوء الأحداث بنسبة كبيرة طوال الرواية.
ما أثار اهتمامي أيضاً هو قدرة تانيزاكي على إظهار التفاصيل الصغيرة وبناء الشخصيات في مخيّلتي وحتّى تمكيني من فهمها دون الحاجة للخوض في تفاصيل كثيرة حول هذه الشخصيات، وهذا من خلال التفاصيل الصغيرة التي يستعرضها أثناء الحوارات، أو من خلال اختلاف أسلوب تعامل هذه الشخصيات مع بعضها عندما تختلف ظروف اجتماعها.
بأي حال، هذه الرواية هي الأولى التي أقرأها من أعمال تانيزاكي، وكانت كافية لإقناعي بقراءة رواية أخرى له قريباً.