في الكفّة الأوّلى، لدينا صورة البطل النمطية، الابتسامة الساحرة، العضلات المفتولة، الوجه المشرق والمحبّ، الصورة التي يرغب كلّ منّا في طفولته عيشها وتجربتها. وفي الكفّة الأخرى هناك الأبطال الحقيقيّون، رجال الشرطة والإطفاء والإسعاف، أشخاص عاديّون، بصفات عاديّة، يعيشون حياتهم العاديّة حتّى يتخلّص العالم منهم بعد انتهاء صلاحيّتهم أو فشلهم في المهمّة التي وكّلت لهم.
بتشورين -ولا يجب خلط اسمه مع “بوشكين” الشاعر الروسيّ العظيم ومؤسس الأدب الروسيّ الحديث- كان من النوع الثاني من الأبطال بالتأكيد، فهو لم يكن رجلاً عاديّاً فحسب، بل كان شخصاً قبيحاً، أرعن، حقير، يكره الجميع ويحب الاستمتاع بمعاناة الناس وكسر خواطرهم وجرح مشاعرهم. شخص لا يعرف الفرح والسعادة سوى بعد سرقته قلوب الناس بكلام معسول فقط كيّ يتلذذ بسحقها لاحقاً.
هذا البطل الذي روى قصته لنا ميخائيل ليرمانتوف، أحد أعظم شعراء الأدب الروسي بعد بوشكين، لم يكن بطلاً بالمعنى الملحميّ للكلمة، لم يكن تمثيل البطل المعتاد، المنقذ، المحبوب، بل كان صورة عن بقايا بطل، لم يبق له سوى الخسّة والوضاعة، منزوياً بنفسه عن الحب والصداقة والمثُل الإجتماعيّة البرّاقة التي يبشّر بها بقيّة الأبطال، ورامياً نفسه في طريق الموت، عسى أن تنتهي حياته التي أثخنتها الشكوك وخيبات الأمل والضجر.
أنهيت الرواية منتظراً العثور على البطولة، ومحاولاً فهم اعتبار هذه الرواية واحدة من أعظم الروايات الروسية في حقبة روسيا القيصرية، وسبب كونها ضمن المسببات التي أججت الثورة على نظام القيصر الروسيّ. لم أفهم من قراءتي الأولى الدافع البطوليّ فيها الذي ألهم القلب الروسيّ البارد ليثور ثورة قلبت البلاد رأساً على عقب… ما الذي رآه هؤلاء ولم أره؟ هل كانت القصّة بهذا السوء؟ أم أنّ جهلي هو ما أعماني؟
لأكون صريحاً، كأي شخص جاهل بالتاريخ الروسي، بدت الرواية سيّئة للوهلة الأولى، ولكن بعد قراءتي عن الحقبة التي نشرت فيها الرواية، وظروف نشرها، عثرت على إجابات واضحة لأسئلتي، وفهمت أنّ بتشورين كان بطلاً حقيقيّاً… الرواية فقط أظهرته في مرحلة مختلفة من المعتاد، فلم تصوّر سطوع نجمه، بل أفوله ومراحل موته.
ولنفهم شخصيّة بتشورين علينا العودة قليلاً إلى تاريخ روسيا القيصرية، وإلى ثورة النبلاء تحديداً.
النظام الاجتماعيّ في روسيا القيصريّة
بنى قيصر روسيا بطرس الأكبر ضمن مجموعة من الإصلاحات البنيوية نظاماً طبقيّاً عملت عليه روسيا القيصيريّة بعد عام 1722 للميلاد، تضمّن هذا النظام مجموعة من الألقاب والرتب.
اقتصرت الألقاب على الطبقة البرجواية والاقطاعة وكان السبيل الوحيد للحصول عليها هو وراثتها أو إثبات نقاء النسل، ويمكن احيانا للعوام ان لم يكونوا عبيدا ان يكتسبوها عن طريق التضيية في ساحات القتال وميادين العمل وغيرها وفي حالات شراؤها من الحاكم بالمال. هذه الألقاب تفاوتت فيما بينها . هؤلاء الأفراد قد يكونون اذا حالفهم الحظ مسؤولون عن قطع من الأرض الروسيّة وعن الناس القاطنين عليها ورواتبهم ومعيشتهم. الكثير من هؤلاء محبوبون لعدلهم وفطنتهم وكرمهم، وبعضهم مكروه لظلمهم وبخلهم وغبائهم.
أما الرتب فكانت تعطى للموظّفين في الدولة، يكون هؤلاء حاصلين على تعليم من مدرسة خاصة أو مدرسة عامّة جيّدة، بعد التخرّج يمكن لهم استحقاق رتبة وفي حال عدم ذهابهم للمدرسة، يمكن أن يخضعوا لامتحان يحدد مستواهم وأهمّيتهم في نظام الإمبراطوريّة الحكوميّ.
حتى أصحاب المهارات والمثقّفين والأذكياء لم يكونوا قادرين على الحصول على وظيفة دون رتبة في تلك الحقبة، وعند حصولهم على هذه الرتبة سيحصلون على رتبة تؤهّلهم للترقية في المستقبل – الترقية التي تعني أيضاً ارتفاع الراتب والمستوى المعيشيّ.
تغلغل هذا النظام في وعي المواطن الروسيّ حتّى أصبح اللقب يذكر قبل الاسم أثناء الخطاب لتوضيح فرق المكانة الاجتماعيّة، الرتبة نفسها لا تعني الاحترام، ولكنّ الفروقات بين الرتب كانت موضعاً للتفاخر والمقارنة حتّى بين أبناء الطبقة والحيّ الواحد.
لا يمكن لعامل مخوّل فقط بالطباعة -وهي مهمّة صعبة ومرهقة قبل اختراع الطابعات- الحصول على راتب عالٍ، فهي مهنة بسيطة لا تتطلب سوى مهارة واحدة، الكتابة، وهذه المهارة تتطلب الكثير من التملّق والجهد حتّى يحصل العامل فيها على ترفيع في الراتب أو المستوى.
عاش الشعب الروسي وقتها من الطبقية حتى بين العامة انفسهم وأصبحت متغلغلة فيهم وأصبح الجار لا يحدث جاره الأقل رتبة إلا بكبرياء وفخر كونه أعلى رتبة، وفي النهاية قد تستطيع ان تحصل على لقب وهنا نستطيع ان نقول انك قد وصلت لصفوة الوظائف والمجتمع، على الرغم من كون الرتبة واللقب لا تعطيان امتيازات قانونية بين المواطنين بل فقط مكانة اجتماعية في بيئته الارستقراطية أو الوظيفية.
وبسبب هذا النظام الذي يفصل بين الطبقة الحاكمة والشعب بحدود يصعب تخطّيها عانى الشعب من الطبقية والتمييز والفقر والجوع.
ثورة النبلاء
في عام 1825 للميلاد، وتحديداً في الرابع عشر من ديسمبر، قامت ثورة تهدف الإطاحة بالقيصر نيقولا الأول قبل تربّعه على العرش، وهدفت هذه الثورة لإقامة نظام ليبرالي وتحرير العبيد والفلاحين وإصلاح نظام إدارة الدولة، مدفوعة برغبة بعض النبلاء والأمراء ومستفزّة بسبب الحملات العسكرية الروسية نحو سيبيريا وحرب عام 1812 التي أثّرت في البلاد.
هؤلاء النبلاء هم أفراد من الطبقة البرجوازية والاقطاعية غالبا إضافة إلى الضباط في الجيش من النبلاء، وقد حصلوا على لقبهم هذا بسبب فضائل أفعالهم من الكفاءة والتضحية ومساعدة المحتاجين، والباقي نتيجة الوراثة والنقاوة في الدم. كان هؤلاء من المحبوبين في مجتمعاتهم، واتّسموا بالعدل والتسامح والكرم والوطنيّة والشجاعة والشرف، وكانت تلك الصفات هي سبيلهم للحصول على مكانتهم بين شعبهم، وليس فقط انتمائهم لعائلة تحمل اللقب الملكيّ أو الأميريّ أو النفوذ بكثرة أموالهم، فالنظام هذا لم يكن مستحدثاً مع نظام الألقاب والرتب، بل كان موجوداً من قبله.
هدف النبلاء المهتمّين بمصلحة شعبهم وأمّتهم كان نبيلاً -كما اسمهم- ولكنّ محاولتهم برفقة 3000 جنديّ روسيّ لتشكيل دستور وإحقاق العدل بين المواطنين وضمان الحريّات وبناء دولة حديثة قادرة على تأمين الحياة الكريمة العادلة للمواطن الروسيّ تلك باءت بالفشل، وانتهت بانتصار قيصر روسيا نيقولا على النبلاء، حاكماً على بعضهم بالإعدام، وسجن بعضهم، ونفي ماتبقى إلى القوقاز وسيبيريا.
من تبقّى منهم حيّاً بعد الإعدامات، أُجبر على ارتداء الزيّ العسكريّ دون الشارة التي تعرّف عن رتبته، وحرم من الحقوق والامتيازات التي كان يمتلكها وحتّى حقوق المواطنين العادييّن، ليصبح كأيّ جنديّ آخر في قاعدة الهرم، وليصبح تعامل الناس -داخل روسيا غالبا- مع الديسمبريّين، أصحاب الثورة الفاشلة، مقتصراً على الإهانات والاستحقار.
الناس نفسهم الّذين ضحّوا بحياتهم فداءً للثورة والشعب، أصبحوا عرضة للذل والمهانة من قبل هذا الشعب، ومن هدفت الثورة لتحريرهم.
وهنا يأتي بتشورين.
من هو بتشورين؟
بتشورين ضابط في الجيش الروسي، من إحدى العوائل العريقة في بطرسبرغ، اكتسب رتبة نبيل واتسم برجاحة العقل والذكاء والشهامة على زعم أقرانه، وكان يحب شعبه وشارك في الثورة أملاً في إجلاء الظلم من حياة المواطن الروسي، ولكن بعد فشل تلك الثورة، تحوّل من بطل إلى مجرم، ومن نبيل محترم إلى حقير آخر، وبعد نفيه إلى القوقاز ليشارك في توسيع الإمبراطوريّة الروسية، وفي الخطوط الأماميّة للمعركة تحديداً، بدأ المعنى من حياته يتلاشى أمام ناظريه بعد قتل محاولته البطولية ووصمه بالعار.
في تلك اللحظة يمكننا فهم شخصيّة بتشورين، البطل الذي خاطر بنفسه لأجل شعب بادله الشرّ عندما فشل، وكيف قاده هذا ليصبح شخصاً حقوداً، كريهاً، ضجراً، يبحث عن المتعة في معاناة الآخرين ليتناسى معاناته، باحثاً عن السعادة في أحزان الناس.
اني لاشعر بنهم في نفسي لا يشبع يلتهم كل ما يصادفه على الطريق، وأنا لا أنظر الى معاناة الآخرين وأفراحهم إلا من ناحية صلتها بي، أي على أنها غذاء لنفسي.
ونتيجة لتخاذل الشعب الذي ضحى من أجله، استبدل الحبّ تجاه هذا الشعب في قلبه لكره.
ألا ليت الناس يبذلون مزيداً من الجهد في التفكير، لأدركوا أن الحياة التي يعيشونها لا تستحق أن تعنى بها كل هذه العناية
وهنا يقصد عدم انتفاضهم معه هو ورفاقه واهتمامهم بحياتهم السيئة.
ورغم ذلك بقي قليل من الإنسانيّة في داخله، وكان يشفق على الناس حوله بعد أن يؤذيهم، وحتى بعد ما قاساه، لم يتمنى الشر لهم.
حين أفكر في احتمال موت قريب، لا أفكر إلا في نفسي وحدها.
بتشورين هو مثال البطل العظيم المستعد للتضحية بما يملك من أجل من يحب، أي شعبه، وماذا سيحصل له عندما يلاقي الشر مقابل أفعاله قادماً ممن قام بالخير من أجلهم.
نُشرت هذه الرواية في 1840م ومنها بدء الشعب الروسي بزعم بعض المؤرخين الروس النقمة على النظام الحاكم، وبدأ ينتشر الوعي بين أطياف الشعب، خاصة بعد وفاة كاتبنا ميخائيل ليرمنتوف بعد عام من نشرها في سن 27 -الرقم الملعون لموت العظماء- في مبارزة مدبّرة غامضة.
ومن الجدير بالذكر أيضاً أن ميخائيل قد نفي للقوقاز نتيجة كتابته قصيدة عن موت بوشكين، الذي قتل هو الآخر نتيجة مبارزة غامضة أيضاً، وأصبح الشعب يتداول قصيدته في كل مكان ويسخط على نظام الحكم، فتم نفيه وعاد بعد تدخلات من جدته. ليشارك في مبارزة مع ابن السفير الفرنسي وينفى على إثرها من جديد للمنفى في 1840م.
تُأخذ هذه الرواية بالعديد من وجهات النظر، فالبعض يصورها على أنها قصة تروي حياة شخص جمع رذائل وشرور الشعب الروسي وقتها في داخله وحتى ميخائيل قال عنها
إن بطل من هذا الزمان هي صورة حقاً، ولكن ليست صورة رجل واحد، إنها صورة تضم رذائل جيلنا كله
والبعض يصورها على أنها قصة ساخرة من التعريف المعتاد لكلمة بطل، ولكن يمكننا -عندما نعرف بعض تاريخ روسيا وبتشورين- أن نجد الرواية تحدثنا عن موت البطل، وأفول نجمه، ومعنى البطولة بعد الذل والإهانة، وصمود مبادئه أمام تلك المعاناة.
هنا نتكلم عن قصة واقعية وليست خيالية، البشر كائنات ضعيفة هشة عندما تسلب منها قيمتها سيحل مكانه الظلام الشر الحقد والكراهية، لن تعود بقيمة أكبر وتحاول من جديد بأملٍ أكبر من السابق كما القصص الخيالية، فليس كل الأبطال يرتدون عباءات مبهرة كما في القصص، البعض قد يرتدي بدلة عسكرية بالية ممزقة بدون رتبة عليها.