من اللحظة الأولى التي تبدأ فيها قراءة سبوتنيك الحبيبة يمكنك -وبكل وضوح- إدراك أنّها ستخوض في الجوانب النفسية للكاتب. هذا لا يقدّم أصلاً بطريقة “بين السطور” بل يعرض بشكل واضح في حديث الشخصية الرئيسية مجهولة الاسم التي تروي أحداث القصّة. ولكن، ما لن تلاحظه في البداية هو أن الشخصية التي تروي الرواية هي الشخصية المدروسة، وليست “سوميري” كما يبدو في الفصول الأولى.
عليّ أن اعترف أنّي لم أصل لهذا الاستنتاج حتّى الفصول الأخيرة من الرواية، ولم تعجبني فصولها الأولى “المباشرة” على الإطلاق، لست من المعجبين بالطريقة المباشرة في عرض الأفكار، وروايات موراكامي الأخرى لم تتضمن أساليب مشابهة، لذا حديثه بشكل مباشر عن “سوميري” ومعاناتها ككاتبة وكفتاة غريبة الأطوار في هذا العالم لم يكن ممتعاً على الإطلاق، وشعرت بالإهانة قليلاً من هذه المباشرة الزائدة في الطرح.
ولكن هذا الانزعاج أزاح نظري عن المهمّ في الرواية: الراوي نفسه.
في هذا المقال محاولة لحلّ اللغز المطروح في الرواية، وفيه حرق لأحداثها ومحاولة لشرح ما يحصل فيها.
الراوي “ك” يحاول خداعك
في كلّ روايات موراكامي التي قرأتها حتّى الآن تركيز على “حالة” شخصيّة معيّنة، والهدف من الرواية عادة هو نقل هذه الشخصية من تلك الحالة إلى حالة أخرى ومحاولة الغوص في دوافع ومفاهيم هذه الشخصيات وطريقة رؤيتها للحياة – الأحداث الغريبة في القصّة هي ما يحمل هذه الشخصية على تغيير حالتها وليست “محور القصّة بذاتها.”
قد تحتجّ على كلامي بأن كلّ الروايات دون استثناء هدفها “دراسة حالة الشخصيّة ونقلها من حال لآخر” وقد تكون محقّاً، ولكن ما يجعل روايات مثل كافكا على الشاطئ ونعاس وبعد الظلام والغابة النرويجية وسبوتنيك الحبيبة بنظري “دراسة شخصيّات بحتة” هو أن القصّة تنتهي بحصول هذا التغيير، وليس بحلّ العقدة أو انتهاء الأحداث. نهاية الرواية مفتوحة من ناحية ما يدور فيها، ولكنّها من ناحية الشخصيّات مكتملة – لهذا قيمة في تحديد “المعنى” من هذه الروايات برأيي.
بالطبع، لا أفرض هذا الرأي على أنّه صحيح بالمطلق، فأنا استكشف هذه الأفكار أثناء قراءتي، ولا أمتلك لها دليلاً سوى طريقة رؤيتي لما يجري في الروايات.
في حالة سبوتنيك الحبيبة تحديداً، من الصعب التركيز على الشخصية المهمّة في القصّة، الراوي مجهول الاسم “ك” الذي يحاول عرض الأحداث من وجهة نظره، يحاول طوال النصف الأول من الرواية تجنّب الحديث عن نفسه بطريقة واضحة، اسمه مجهول ولا نعلم عنه سوى ما يريدنا أن نعرف عنه. حتّى منتصف الرواية تقريباً لا يكون لدينا كقرّاء أيّ سبب لنشكّ في كلامه وكلّ ما يمكننا فعله هو محاولة التركيز على سوميري وميو وعلاقتهما الغريبة، لنحاول فهم دوره في تلك العلاقة.
في النصف الثاني من الرواية يبدأ الراوي نفسه بالحديث بطريقة مختلفة، لا يعود الحديث “تقريريّاً” بالكامل بل يبدأ شيئاً فشيئاً بالتأثير هو في أحداث القصّة، وعندما يبدأ تأثيره هذه يمكننا ملاحظة أنّه ليس شخصاً “صريحاً” بالكامل.
هناك لحظات “يغيب فيها عن الوعي” ولحظات “لا يدري ما الذي يحصل فيها” وهناك أيضاً “مشاعر تسيطر على جسده” و”رغبات لا يمكنه احتمالها” في مواقف محورية في القصة. يمكننا ملاحظة مماطلته في كثير من الأحيان أيضاً ليصل إلى نقاط محورية في القصة، وصف رحلته من اليابان إلى اليونان بالتفصيل دون إضافة أيّ معلومة عمّا يحدث، وتضييعه للوقت مع ميو قبل متابعة قضيّة سوميري.
اعترافه في النهاية للطفل، الذي يرمز لسوميري بشكل أو بآخر، وشعوره بالراحة النفسية والارتياح بعد انفصاله عن أمّه التي ترمز لميو.
عند جمع الأجزاء كلّها، لا يمكن غضّ النظر عن خداع “ك” وتحويره للأحداث وإخفائها.
رحلة التكفير عن غيرة الكاتب
للإرادة في هذه القصّة دور كبير جداً في التأثير على الأحداث، ميو أرادت أن تصبح عازفة بيانو مميزة، وشخصاً قادراً اجتماعيّاً، ولكنّ حدثاً ما حرمها من هذا، أزال لون شعرها ورغبتها الجنسية، ومنعها من العزف على البيانو. الأمنية تحققت، ولكن لميو من العالم الآخر على حساب ميو الموجودة في هذا العالم.
سوميري أرادت أن تفهم ذاتها، أن تكون محبوبة، أن تكون مع ميو بجزئيها المنفصلين، وإرادتها تلك نقلتها إلى عالم آخر بالكامل، لم يكن بالإمكان تحقيق امنيتها دون اختفائها من هذا العالم – وباختفائها ذاك أخذت معها الجزء الآخر من ميو، تاركة “قشرة خارجية” لا روح فيها.
“ك” أراد سوميري، ففيها كلّ شيء لا يمكنه الحصول عليه، قدرتها على الكتابة، شخصيتها العفوية، وجسدها الجميل الذي لا يمكنه مساسه، ولكن على الرغم من رغبته في الحصول على كلّ هذا، لأنّ رغبته تلك نابعة من غيرة وحسد لما يمتلكه شخص آخر، بدلاً من أن تكون رغبة خاصّة به.
عندما تدخل ميو على الخطّ لتقوم بما لم يكن قادراً على القيام به، لتصنع من سوميري “سيّدة” وتقدّم لها عملاً وتتيح لها فرصة “السفر حول العالم” لتكسب إلهاماً يمكنها من خلاله إنهاء رواياتها – ولتكون أيضاً الشخص الوحيد الذي استطاعت سوميري أن تنجذب له جسديّاً. يبدأ الزيف والخداع الذي قدّمه “ك” في البداية ينهار، وبدأ يظهر على طبيعته الحسودة، على الرغم من عدم فعله أيّ شيء لإيذاء سوميري، كان “يرغب بذلك بشدة.” والرغبة في هذه القصة قادرة على التأثير في مسار الأحداث كالفعل تماماً.
بعد تصريحه برغبته تلك، سافرت سوميري، وفي سفرها اختفت، وهنا بدأت التغيرات تطرأ على “ك” ليبدأ إدراك الخطأ في طريقة تفكيره، ولتنتقل سوميري في نظره من كونها “كاتبة” و”رغبة جسدية” إلى كونها “صديق” و”شخص عرّفه على ذاته” وليدرك أيضاً أنّ الرغبة في هذا العالم لها تأثيرها، وأنّ رغبة ميو ربما تكون السبب وراء اختفائها.
وفي الفترة التي يبقى فيها على الجزيرة، يدرك “ك” رغبة أخرى، رغبة بالعثور على سوميري والبقاء معها ويبدأ بسماع الموسيقى التي تشدّه إلى العالم الآخر، ولكنّه وفي اللحظة الأخيرة يقرر أنّه لا يريد التخلّي عن عالمه بعد، وأنّ هذه الرغبة قد لا تكون “صحيحة” بحقّ الناس الموجودين في حياته.
بسبب التجربة تلك التي مرّ فيها عند قمّة الجبل، يدرك “ك” أنّ رغبته نحو سوميري ربما تكون سبباً في اختفائها، وأنّه مسؤول عن هذه الاختفاء بشكل أو بآخر. ميو أيضاً تشعر بالذنب بسبب حديثها مع سوميري عن الموضوع، وتحاول الحصول على “السماح” من “ك” قبل رحيله عن الجزيرة، ليقدّم لها تلك الراحة الأخيرة.
يعود “ك” إلى طوكيو، وتجري الحادثة المتعلقة بالتلميذ ووالدته التي كان يواعدها سرّاً، وفي نهاية القصة، وبعد أن يرمي المفتاح الأحمر في النهر، يحصل “ك” على “خلاصه” الأخير من شعوره بالذنب – وليرغب في نهاية القصّة أن يصل إلى سوميري، هذه المرة رغبة ليكون معها، لا ليمتلك جزءاً منها، واتصالها في منتصف الليل هو دليل تأثير تلك الرغبة.
“ك” في نهاية القصة يرى يده غير الملطخة بالدماء، ويصل للعالم الآخر الذي تعيش فيه سوميري مع النصف الحيّ من ميو.
إن نظرنا لسوميري على أنّها “روح الإبداع” في هذه القصّة، ول”ك” على أنّه الكاتب، ولميو على أنّها “أحداث الحياة” يمكننا فهم النظرة التي يرى فيها “ك” سوميري في البداية، ورغبته في الحصول عليها وامتلاكها وغيرته من ميو عندما تأخذها بعيداً عنه. وعندما تختفي سوميري تماماً من العالم، عاد ليعكس المفاهيم نفسها على أحداث مختلفة، ليتابع من حيث توقف، محاولاً التصالح مع روح الإبداع التي رآها في الطفل، وليقطع علاقته مع والدته في محاولة أخيرة لإصلاح الأمور.
فقط عندما استطاع “ك” أن يفهم نفسه ورغبته جيّداً، وعندما أدرك أن “حبس” روح الإبداع هذه أمر غير ممكن، وأنّ تأثيرها على حياته لم يكن مجرّد “رغبة جامحة” تسيطر على جسده، استطاع أن يكون معها في نفس العالم – وحتّى حينها لم يكن قادراً على التواصل معها بشكل مباشر – ربما لأنّ الأوان قد فات.