ظلّت رائعة جوزيه ساراماغو على رف مكتبتي مهجورة لفترة طويلة، إلى أن صرخت صديقة لي “هيه، ألم تقرأ رواية العمى إلى الآن؟ دع كل شيء ولتقرأ هذا الكتاب” كان ذلك. التقطت الكتاب لأباشر بالصفحة الأولى، أما عقارب الساعة فكانت تجري لأجد نفسي ألتهم الصفحات لثلاث ساعات متواصلة.
انه ساراماغو ذلك الكاتب مثير الجدل، صاحب جائزة نوبل، الملحد التشاؤمي. ومن هذا الوصف بأمكانك التنبؤ بمحتوى الرواية. إنها ليست رواية بقصد الترفيه، على العكس، كئيبة قاتمة تعج ببشر قذرين عراة، طافحة بالبدائية والقسوة لتسأل نفسك، ما هو الدرك الأسفل الذي يمكن أن يصل له الإنسان؟ أين يمكن أن تودي به هشاشته وحيوانيته في آن واحد؟ عندما تنهار الحضارة ويضيع التمدن يعود الإنسان إلى وحشيته الأولى.
تبدأ الرواية مع رجل بسيارته يترقب إشارة المرور وفجأة يصاب بالعمى، يفقد البصر ليرى محله صفحة بيضاء “وكأنك تسبح في الحليب” ومن ثم يجتاح العمى مدينة بأسرها، مدينة بلا اسم وشخصيات بلا أسماء.
العمى بدون علامات ترقيم!
في سابقة من نوعها وغاية في الذكاء، اختار ساراماغو التخلي عن علامات الترقيم، لا شرطات أو نقاط رأسية، لا فواصل منقوطة أو اقواس أو حتى علامات اقتباس، لتقرأ الحوار مدمجاً مع السرد فتقول “اوه مهلاً! من قال هذا؟ هل هو الطبيب أم اللص؟” إنك كفيف أيضاً أيها القارئ، حالك كحالهم تستشعر معاناتهم وعجزهم.
مدينة مجهولة وشخصيات بلا أسماء
اختار ساراماغو ألا يسمي المدينة التي تقع فيها الاحداث، أما عن الشخصيات فهذا الطبيب وهذه الفتاة ذو النظارة السوداء وذاك الكهل ذو العين المعصوبة. لا أسماء، كأن كاتب الحروف يصرخ “ان العمى مشكلة البشرية جمعاء” لا حكومة لتنتقد سياساتها أو وطن ترثى لحاله أو شعب تستشف بآلامه.
نفى ساراماغو المحلية في رواية العمى لتحل محلها العالمية، إنها مشكلة الإنسان في كل زمان ومكان ودعوة منه للتفكر والتدبر، هو يطرح الأسئلة وعليك انت أيها القارئ أن تجيب أنت وحدك، فلا تلق عبئ الإجابة على الآخرين.
العمى تحت المجهر
إن طرحت هذه الرواية على طاولة حفنة من القراء فإن الفوضى ستعم الحديث، كلٌ منهم يؤولها حسب فهمه وتجاربه فهذا يقول “إنها صرخة ضد الرأسمالية، ضد الإنسان الذي خلق ليستهلك قدر الإمكان، إننا عميان.” وذلك الذي يرتفع صوته متهدجاً بأسى “انها لتفضح عرينا الأخلاقي كبشر، ومدى الانحطاط الذي وصلنا إليه، اننا عميان دون أن ندرك.”
سمعت آراء عدة أصدقاء، ولست بمعرض رفض إحداها أو تقبل الأخرى، فليس هذا من حقي. شخصياً، أجد شيئاً من المتعة في هذه الروايات، تلك التي تنتهي بأسئلة كبرى تؤرقك أيام وتأبى الخروج من رأسك، تلك التي تلازمك وتلتصق بك رغم رمي الكتاب من شرفة المنزل.
أما عن رأيي الذي لا ألزم به أحد فأقول: إنها رواية سياسية حافلة بالمعنى، ولا يمكن فهمها بمعزل عن سيرة الكاتب وموقفه السياسي، فهو شيوعي أناركي معارض للاستبداد، اختار عماً أبيضاً يجتاح البشر وكأنه صفحة جديدة في تاريخ الإنسانية، عاد البشر به إلى بدائيتهم الأولى بكل وحشية تارة وطيب نية تارة أخرى وكأنه امتحان مرّ لابد منهم أن يخوضوه، فتشكلت مجموعة الطبيب، وأفرزت لنفسها قيادات بشكل عفوي وعملي، إنهم أفراد تجمعهم روابط الحب، تلك الصورة المثلى للاسلطوية السياسية.
وحين تبلورت مجموعة المهجع الأول هذه يخرجون بعد حريق دار الحجر إلى عالم جديد، عالم للجميع لا ملكية خاصة فيه، يهطل المطر على الشخصيات لترى فرحتهم وولادتهم الجديدة، يرقصون تحت قطرات الماء ضاحكين يتطهرون من أدرانهم، بل إن الكهل ذو العصبة السوداء كان خائفاً من أن يرتد له بصره، كان ممتناً لهذه الخلية الأولى والأسرة الصغيرة، مجموعة الطبيب، ذلك التنظيم الذي تبلور وأثبت قدرته على الصمود بعيداً عن حكومة مركزية مستبدة هزلية، بعيداً عن قوانين ودساتير، إنما إرادة الخير كانت كفيلة لشق طريق النجاة في هذا العالم.
العمى بين الرواية والفيلم
كان ساراماغو في غاية السعادة حين شاهد فيلم Blindness – 2008. وعبر عن فرحه بالقول “إن نشوة متابعة الفيلم كالنشوة التي تملكتني حين أنهيت الكتاب” لكن كان للمشاهدين رأي آخر، وذلك غالباً لظنهم بأنه “محتوى ترفيهي” والحقيقة أنه ليس كذلك.
وبالطبع إن سؤلت سأقول: كانت تجربتي الروائية مع العمى أفضل أشواطاً من تجربتي السينمائية، ليس لمشاكل فنية في صناعة الفيلم، إنما للمساحة التي تقدمها الرواية في التأمل والتفكير، عليك أن تتوقف برهة لتتسائل “ما الذي يرمز إليه هذا المشهد؟ ماذا يريد أن يقول؟”
كان طرح الأسئلة مع تجربة القراءة أوضح وأجلى، كما أن الكتاب يضج بالمعاني بين السطور، خاصة ومع ما يقدمه من حرية التخيل عكس التجربة السينمائية.
وفي النهاية بإمكاني القول أن رواية العمى تحتل مرتبة رفيعة، وهي من أفضل ما قرأت وهذا ما جعلني انتصر للقول الذي يعتبر ساراماغو أيقونة من أيقونات الأدب المعاصر، فهو المشاكس السياسي المعارض دوماً والمنفي أخيراً في جزر الكناري، هو المبغوض من طرف الكنيسة الكاثوليكية والملعون منها، وهذا جعلني أتلهف شوقاً لقراءة أعماله الأخرى المثيرة للجدل والتي منع بعضها من النشر، مثل الإنجيل يرويه المسيح، ما زاد القراء شغفاً ولهفة وإني أحدهم، أرغب بسماع صوت الكتاب الذين لا يريدون منا سماعهم.