بدأت بقراءة رواية الطاعون مؤخراً بعد موسم امتحانات مرهق بظل التوتر الحاصل من انتشار فيروس كورونا، ولم أستطع سوى التمسك بها بدون راحة حتى إنهاء ما يقارب الثلاثمئة صفحة في يومين، ذلك أن الرواية تمثل بمعناها الأبسط على الأقل وباءً، يشابه في الكثير من ظروفهِ ونتائجهِ الوباء الذي يحيط بنا الآن ويسبب الكثير من الارتباك حد الرعب حول العالم، بفرق واحد هو رقعة الانتشار، التي تنحصر في عظيمة كامو الخالدة، بمدينة وهران الجزائرية.
لم يكن اهتمامي منصب عليها فعلياً بسبب تشابه الأحداث والأرقام والسلوكيات الرسمية الحكومية، حيث أن لا جمالية محددة في قراءة أعدادٍ متزايدةٍ من الوفيات المتخيلة وتذكر ضحايا اليوم اللذين كنا نعيش معهم أو على الأقل من قد رأينا أثر فقدانهم على أحبابهم وأصدقائنا، بل إن ذلك في الواقع ليس سهل القراءة.
لكن إعجابي كان في تفاصيل التجربة الأنسانية والعواطف المجسدة والممجدة في هذا الكتاب، لم يكن تمجيدها “مبتذلاً” كإظهار تضحيات غير منطقية في عبثية مأساة لا يمكن تخيل هولها، على أنها كانت شديدة الواقعية.
إذاً… كيف كان الطاعون
تبدأ الرواية بتعريف أساسي عن عدد من الشخصيات و ظروف حياتهم ومهنهم بشكل سريع دون تعمق بشخوصهم، وكذلك وصف لوهران، المدينة “المحايدة” والجميلة الحية بشكل “معقول”، لن أتطرق لهذا الجزء مطولاً- حيث سأترك متعة التفاصيل لمن يود قرآتها بعد هذا المقال- ثم تبدأ أحاسيس القلق.
ذاك الاشمئزاز من المستقبل بسبب سلسلة من أحداث غير معتادة وحالات مرضية لا نمطية، حالات بأعراض متشابهة، حالات متزايدة و قاتلة، تلقي على الأطباء بثقلها فارضة عليهم الاعتراف بالرعب، بطبيعة المرض رغم محاولة العقول البشرية الهشة الهروب من الإقرار بالمصائب، فكما يعيش الدماغ البشري بإبعاد فكرة الموت الحتمي عن نفوس الناس، ترفض العقليات المنطقية الإقرار بكوارث لا سبب لها، فترفض الإيمان بالطاعون.
وعلى الرغم من الإقرار العقلي من المختصين، يحدث بعد ذلك تشنج حكومي لإصدار تدابير تقي الناس الموت لا لشيء بل لعدم إثارة الذعر (ربما كانت نفس العقلية البليدة التي سمحت بانتشار فيروس كورونا) يستمر ذلك حتى اللحظة الحقيقية لبدء الثقل في الرواية، لحظة وصول برقية الأوامر إلى محافظ وهران بالكلمات القليلة التالية:
كيف تكون الحياة تحت حكم الطاعون؟
بالطبع، قد يرى البعض في تشبيهِ المرض بالحاكم بعض المبالغة، لكن عند تخيل تحول المدن إلى سجون والأبرياء كمحكومين بالإعدام بلا أدنى سبب، سيكون هذا التشبيه أكثر تقبلاً.
لم يقتصر الأمر على الخوف من الإصابة والموت، بل إن عذاب الحياة في مدينة موبوءة قد يكون أكثرُ ثقلاً وصعوبة من خطر الموت، بالنظرة الأولى يكون السجن الإلزامي على أناسٍ غير محكومين هو الواقع الأبشع، لأن الجريمة الممكنة لكي تعاقب مدينة كاملة بأهلها وأطفالها وشيوخها هي جريمة غير موجودة، لكن العقوبة لا تزال حاضرة.
لكن عند التدقيق في الأمر، فإن صعوبة الأمر تكون في النفي، ذاك أن التواجد قرب من تحب سيخفف وطأة أي ألم، لكن ماذا عن العزل المفاجئ عن الأحباب، سينتج عنه شعور بألم السجناء، ألمٍ لا يوصف، ناتج عن العزلة والفرقة والإبعاد، الإبعاد عن الأرواح الاخرى، عن الحياة الطبيعية، عن الحرية، تلك التي يقدسها كامو.
المشاعر الإنسانية ضمن تدرجات مراحل الوباء
لعل أكثر ما أحببته في الرواية هو التجسيد الدقيق حد الدهشة لمشاعرِ البشر في ظروف الوباء، أقول هذا انطلاقاً من تجربة العيش مع كورونا ثقيل الظل، بداية من البرودة والإنكار المصاحب للأيام الاولى، ثم حالة القلق المعمم عند إدراك جدية الأمر، والنفور حتى من الجيران والأصدقاء، لا كرهاً لهم بل خوفاً عليهم، ثم انتشار اليأسِ و الموت، كما حدث في العديد من المناطق.
ومحاربة هذا بالتمسك بالأمل والغناء على الشرفات وتمجيد “الأطباء الحقيقين” كما يصفهم كامو، والتعاطف الدولي مع المناطق المنكوبة كما هي صرخات “وهران، وهران” القادمة عبر المذياع، ثم الشعور بالخلاص والتحرر عند إنهاء الإغلاق العام، شعور يماثل القدرة على التنفس بعد زمنٍ طويلٍ من الاختناق، كل هذا جسد بدقة، وبمشاعر محبوكة.
الوباء والدين، كلام المؤلف عن نظرة الكنيسة.
عادةً – وخصوصاً في السابق- يشكل الدين جزءاً أساسياً من أغلب المجتمعات ويؤثر في أكثر الأفراد حتى لو لم يكونوا من المتدينين، وعند حدوث البلايا، ينقسم معظم الناس لنوعين قد جسدهما كامو بروايته، الأول، المتمسك بالأسباب والنتائج المنطقية والمطالب بالعدل والحياة، يكون شديد النقمة، رافضاً لما يحدث بدون سبب، مزدرياً العقوبة الجماعية التي تحصل من غير ما ذنب، ويحمل حقداً هائلاً على هراء جمالية العذاب، يتمثل هذا الفكر بشخصية الطبيب ريو، من يستميت في رفض الموت، أو بالأصح في رفض التسليم به مع إدراك حتميته، داعياً للثورة التي تقاوم ظلم القدر.
أما النوع الآخر من التفكير، ذاك الذي يلجئ إلى التماس أسباب النجاة من القوة العظمى فقد جسد أيضا في ظل الطاعون، وضوحاً في شخصية الأب بانولو، القس ذو الشعبية، من أجاب باستحقاق المدنيين للموت عندما حل الوباء، مع إنكار برائتهم والتهمة كانت عدم تلبية احتياجات الإله العاطفية.
بشكل عام يرفض المنطق البشري السليم إدانة الضحية، لأن هذا الفعل يكون أقرب للإجرام لسببين، الأول هو العفو غير المبرر عن المجرم وتحول اللوم عنه، والثاني هو زيادة ضرر الجريمة الحاصل على ضحيته.
وحتى عندما لا يكون هناك جريمة ما بل مجرد مرض عابر، فأن الطب النفسي يحرم توجيه أي لوم أو حتى الإيحاء به إلى المريض، وكذلك يمنع وعظه دينياً حيث إن من عوامل الخطورة القول للمريض أن سبب مرضه هو قلة إيمانه لأننا بهذا نزيد مشاعر تأنيب الضمير لديه مما يدفعه للانتحار.
لكن، في ظل وضع غير طبيعي، لا يمكن الطلب من الناس الاستعمال السليم والعلمي دوماً للمنطق، فهناك عدة أمور قد تعجز الأدمغة البشرية عن استيعابها، مثالها هنا هو الكوارث، فيلجأ الكثيرون للتفكير الميتافيزيقي، ربما لإصباغ بعض المعنى على العبثية من حولهم، وإيجاد المنطق في الغوغائية الحاصلة لصنع أرضية مستقرة للتفكير تحت ضغط ألم لا مبرر.
وهذا ليس خطأ بالضرورة، فأديان العالم توفر العديد من الإجابات المرضية لكثير من الناس، هذه الإجابات تكون منطلقاً لسلوكهم ومنشأ لبناء آمال للمستقبل، مما يحمي العقل من الانهيار ويجعل الأمور مهما بلغت تبدو مقبولة أكثر، ومن جهة أخرى تقدم تفسيرات عدة تحمل الصواب بدرجة معقولة، إلا أنها تسقط حينما تؤذي الكوارث ممن هم أبرياء بالضرورة كالأطفال.
قيمة المحاولة اليائسة مقابل الخضوع
هناك في هذا العالم حتميات، وكذلك توجد بعض القوانين والتشريعات، إذا كانت هذه القوانين مجحفة عادة ما يرفضها الناس، باستثناء القلة المستفيدة، على أن هذه القوانين كرست كثوابت في بعض الأحيان والعصور رغم وضاعتها، كاستعباد البشر والاتجار بالرقيق على سبيل المثال، هي قوانين يرفضها العقل الإنساني ولكنها وجدت لغاية ما، لفائدة ما، لصالح البعض لا أكثر.
لكن ماذا يحدث حينما تكون الحتميات القدرية هي اللامنطقية، لمَ يجب أن نولد فنموت، لمَ يجب أن نعيش فقدان أحبابنا، لمَ بحق الجحيم خسرنا الملايين من الأرواح بفعل فايروس لا يرى، لمَ انفجرت بيروت، لمَ ماتَ كامو في حادثِ سيارةٍ صعد إليها صدفة، ما السبب الكافي لنزع غريزة الحياة من بعض أجمل البشر ودفعهم للانتحار، كيف يمكنُ أن نجدَ غاية في حياة تنعدم فيها المنطقية؟
ربما تبعث هذه الأسئلة اليأس والأسى، ولكن هنا، في الطاعون، هي تزيد الغليان فتأمرُ بالتمرد، قد يقصد بالتمردِ أحياناً الانتفاض ضد العبودية أو حتى رفض قوانين القدر.
هذا جنون لا بأس، لن يكون أكثر جنونية من كل الأمور السابق ذكرها، قيل لمن حارب العبودية أنه مجنون، وقيل لمن نادوا بحقوق المرأة أنهم مجانين، وقيل لمن أثبت كروية الأرض ومركزية الشمس أنهم مجانين، وكذلك لمن تعلم الكيمياء ودرس الفلسفة، بل وقيلت للأنبياء والقديسين والنساك ،هذا لا يجعل أياً منهم على خطأ.
أما في الرواية، فهذا النوع من الجنون في المواجهة يتمثل بالطبيب الذي يقاومُ الموت، لا فائدة من محاولة علاج مرض قاتل، لكنه يستمر بفعل ذلك، لا لشيء، سوى أنه يرغب في الغد، كما في أسطورة سيزيف، ذاك اليافع الذي يرفع صخرة نحو القمة فتتدحرج منه ويضطر لإعادة الكرة إلى ما نهاية، الطبيب يقدم العلاج فيموت المرضى فيستمر بتقديم العلاج فيموت المزيد منهم، ما هذا الهراء؟
تتبين ماهية وقيمة هذه المحاولة بقيمة الرفض ذاته، باستنكار الخضوع مهما كانت العاقبة، حتى لو كان غير معقول، فالمهم هو الكفاح، أما عن العيش بنمط حياة ترغم فيه على ما يجب عليك فعله، فمهما وفر لك من رفاهية، فهذا امر لا يطاق، وكون هذه الإلزامية تنجم عن العالم بذاته فهذا قد يكون مدعاة لليأس فالانتحار، يرد كامو في مقال أسطورة سيزيف: