لماذا الليالي البيضاء؟ لماذا هذا العنوان، أذلك لثلاث ليال قضاها بطلنا برفقة فتاة حسناء كان يتوق لمحادثتها؟ كلا. بل لأن الشمس في بطرسبرغ تغيب لعشرين دقيقة فقط في نهاية شهر أيار لمنتصف شهر تموز! إنها سماء بيضاء ناصعة.
ولأصدقكم القول، لطالما كانت كلمات دوستويفسكي تضفي سحراً على القارئ، تحفزه إلى زيارة بطرسبورغ، والمشي في شوارعها أثناء هطول المطر، واحتساء مشروب ساخن على ضفاف نهر النيفا. هذا ما شعرت به بين صفحات الكتاب.
الليالي البيضاء، هي رواية قصيرة كتبها دوستويفسكي في بداية مشواره الأدبي، تحكي قصة شاب مجهول، حالم وحيد يقضي الليل متجولاً في بطرسبرغ إلى أن قابل فتاة تدعى ناستينكا، كانت على ضفة النهر تبكي، لتمضي رحلة أبطالنا لأربع ليال فقط.
الحالم الوحيد
هو بطلنا، والذي يقص علينا الحكاية بضمير المتكلم. لا نعرف اسمه أو وظيفته، كل ما نعرفه أنه وحيد تماماً حالم متطرف كما يعرف نفسه بأنه ليس إنساناً، بل مخلوق يعيش في الظل، كائن محايد. أتسائل أحياناً، هل هو سعيد بعالم الحلم؟ أن أن الكآبة تغلبه حين يصحو من أحلامه. فالرواية تعرض لنا الجانبين. ولا يخفى على القارئ أن بطلنا رجل نبيل، طيب القلب، يفرح لفرح الناس ويحزن لحزنهم.
يمشي في الشوارع ليكلم المنازل، يخوض مع عجوز نقاشاً صامتاً دون كلام، عاش حياته في قصور من الأحلام، لكن كان يبحث عن إنسان آخر ليحدثه عن وحدته، عن خوالج نفسه وأحلامه. هنا كانت ناستينكا التي تعرف عليها في الليلة الأولى، لينطلق في حديث طويل كأنه يقرأ في كتاب، يغوص البطل في أعماق نفسه وأفكاره، ليقدمها على شكل كلمات إلى ناستينكا.
لماذا اختار دوستويفسكي ذلك الراوي المجهول؟ ربما ليوصل فكرة، ألا وهي أننا كلنا حالمون بشكل أو بآخر، إننا جميعاً نعرف الوحدة وعايشناها، ربما كان بطل الليالي البيضاء هو القارئ نفسه بوجه من الأوجه. ويلحظ القارئ أن هذا الأسلوب الأدبي الواقعي قد تكرر في روايات دوستويفسكي القصيرة مثل “رسائل من تحت الارض” و”حلم رجل مضحك”
ذلك الأسلوب الذي يكون الراوي فيه بضمير المتكلم، هو مجهول الإسم، لكننا نعرف كل تفصيل في خبايا نفسه.
ناستينكا تبكي على ضفة النهر
كانت ناستينكا تبكي على ضفة النهر، هكذا عرفها بطلنا في الليلة الأولى، كان شرطها في علاقة الصداقة هذه أن لا حب هنا، وذلك لسبب نعرفه لاحقاً في الرواية. تختلف عن صاحبنا الحالم، فهي واقعية بسيطة، وأرى أن السذاجة تجمع الاثنين.
ومن نقاط قوة الليالي البيضاء هي موهبة دوستويفسكي في جعل الشخصية محور العمل، بإمكانك أن تلاحظ بوضوح اختلاف أسلوب الكتابة حين التنقل بالحوار، فبطلنا صاحب الكلام المنمق، الذي يغوص في أعماق نفسه، إلى ناستينكا تلك الفتاة صاحبة الحوار البسيط، ذلك الكلام الذي يمكن أن تسمعه كل يوم في حياتك الواقعية.
كان لديها ما تخفيه، تخاف الحب، تخاف الانتظار والخذلان. تعرفت على البطل وكان لديها رغبة حقيقية في التمسك فيه والتمسك بأواصر الصداقة، فكان كلٌ منهم يحتاج الآخر ليؤنسه في وحدته ويشد أزره ويربت على كتفه.
بصمة دوستويفسكي
هي ليست رواية رومنسية بالمعنى الدقيق، وليست رواية غموض. بإمكانك أن تتكهن بمجرى الأحداث بسهولة، ولا أظن أن القارئ قد ينصدم في النهاية. بل كان دوستويفسكي يصب اهتمامه على الشخصية وليس الحبكة، على بطلنا الحالم المجهول وناستينكا الفتاة الطيبة البسيطة.
بإمكانك أن تعرف اسم الكاتب دون أن تقرأ اسمه، فبصمة دوستويفسكي مطبوعة على الليالي البيضاء. وان ذلك الكاتب المتشائم لا يوفر فرصة يصبغ فيها حروفه بالسوداوية، حتى مع رجل أبيض القلب يفرح لفرح الناس ويحاور المنازل. فلابد للوحدة ولابد للخذلان.
تتجلى بصمة الكاتب في نهاية الرواية، تلك النهاية التي أتحفظ عن ذكرها لتعرفوها أنتم. حيث انه أمسك مبضع وكأنه طبيب خبير، وأخذ يشرح شخصياته وكأنه جراح خبير. تعرف مخاوف الشخصية ودوافعها، والحق أقول فإن شك يراودني! هل من كاتب يعرف البشر حق المعرفة كدوستويفسكي؟ هل من كاتب يغوص في أعماقنا وبعرف جواهر قلوبنا وزبده كهذا الكاتب؟
من تراث الكاتب
في النهاية بإمكاني القول أن الليالي البيضاء ليست أفضل أعمال دوستويفسكي. فالمنافسة صعبة في ظل رواياته العملاقة كالجريمة والعقاب، الأخوة كارامازوف، الأبله، الشياطين، والمراهق. رغم ذلك فالليالي البيضاء خيار جيد إن رغبت بالتعرف على الكاتب. فالرواية لا تتعدى المئة صفحة، وان كنت قارئ ذا صبر فستنهيها في جلسة واحدة.
نعم، انه تراث ضخم لأديب وروائي، فيلسوف ومفكر. ويبدو واضحاً أن الرواية محل الحديث كانت بداية حبو دوستويفسكي نحو العالمية. والممتع في أعماله هو ملاحظة التغيرات الفكرية التي أصابت الكاتب، فحياته كانت تضج بالأحداث، ولا بد أن أكتب مقال خاص أتحدث فيه عن ذلك العملاق دوستويفسكي، الذي بقي حياً بيننا رغم مضي مئة وخمسين عاماً على أعماله.
يمكنك شراء هذه الرواية من كافة الدول العربية عن طريق متجر جملون.