دميان.. رحلة تشكل الإنسان عند هرمان هيسه.

لم أكن أريد إلا أن أعيش وفق الدوافع التي تنبع من نفسي الحقيقية، فلم كان ذلك بهذه الصعوبة.

كتاب صغير الحجم عله يكون أقرب للأفكار التي عاشها مؤلفه الألماني في فترات حياته المختلفة، دوّن فيه نظرته للإنسان والأخلاق والإله، نظرةٌ قد تكون متطرفة أو مستهزئة مستنكرة بالنسبة للبعض، ولكنها عامرة بإيمانه بما قد استطاع إليه سبيلاً من نفسه الحقيقية التي أرادها.

تبدأ القصة في طفولة ايميل سنكلير، الطفل الثري من العائلة المتدينة الفاضلة المنتمية لعالم الضوء والصلاح، وعلى الرغم من عيشه في وسط التقى، استطاع أن يعرف بغريزته أن هذا النقاء محصور في عالم البيت ذو الجدران الأربعة والمدرسة الراقية وأنه يوجد عالم متمم للأول، عالم الظلام والفساد والآثامِ والشائعات، عالمٌ تسيطر عليه الفوضى والعنف والخداع و الإيقاع المتوتر لحياة الخطيئة المبهجة، في حين يمثل عالم النور شيئاً أقل جمالا، شيئاً رتيباً ومملاً.

فتكون هذه المعرفة بذرة لتشكيل نواةِ طريقة أخرى في التفكير، طريقة نقدية خاصة مشككة متسائلة فطرية كالفضول الطفولي النقي، على أنها -بشكل طبيعي- تبقى محصورة بالتمييز بين الصواب والخطأ، لتحتاج دفعة إضافية قبل أن تنتقل إلى مرحلة أكثر هرطقة، لتأتي تلك الدفعة على يد ولد آخر في الابتدائية؛

دميان

قد يشير معنى اسمه للشيطان، وكذلك للإله، أي للمعنى الكامل والمتناقض للوجود. دميان هو فتى ورجل، كذلك ذكر وأنثى، حي وميت. هو طالب في مدرسة ابتدائية أكبر من بطل القصة بقليل ولكنه؛

لم يوحي لأحد بأنه ولد، فعلى العكس منا جميعا كان يبدو غريبا وناضجاً مثل رجل.

يدخل ماكس دميان لتلك الطفولة المرتبكة منقذاً إياها بسهولة من همومها الزائفة ليطرح أمامها كوارث أكثر وجودية، جاعلاً من قابيل شخصية ظريفة ومستخفّاً -بدون سخرية- بالقصة التوراتية القديمة، مبرراً وصم قابيل بأنه كان مختلفاً، كان جريئاً وذو إرادة حرة، قوياً وقادراً على فعل ما يريد، فقام باقي الناس بشيطنته بدل قتاله، قائلين أن لديه “العلامة” الشيطانية عوضاً عن القول بأنهم لم يكونوا سوى جبناء.

كان ما سمعه مقنعاً ومهرطقاً لدرجة مدهشة.

يستمر سنكلير على ذات المنوال من التشكيك العقائدي لفترة، ريثما تخرج رغباته الجنسية إلى العلن طارحةً أسئلة أخرى. 

فإذا كان الجنس، مرتكز وأساس استمرارية هذا الوجود، هو فعلٌ آثم، فكيف نستمر بدون أن نبتعد عن النور الإلهي؟

ومنه إذا كان الله يمثل كل ما هو جميل ونقي وأبوي وسامٍ، إلا أن العالم ليس مجرد نقاء فقط، بل هو يحتوي كذلك على جانبه المظلم، المخطئ، لا نتكلم عن الجنس فقط بل ما هو بشع عن حق، كالقتل مثلاً، الجوع والفساد والمرض، هي كذلك خلق الله، الله الحقيقي، المتناقض عما يصور دينياً في كثير من الأحيان، الرب الذي أوجد الخير والشر معاً؛

ابراكساس

تذكر الأساطير التاريخية القديمة هذه الكلمة كمفردة سحرية تستخدم في وسائل الشعوذة، وتمثل كذلك اسم إلهٍ – شيطان في طبيعة مزدوجة يمكن أن تجيب عن الأسئلة الغامضة عن أصل الشرور، عن معضلة سبب خلق الشرير وتفسر التناقض المتناغم الضروري لهذا العالم، الين واليانغ، الظلام والنور، الجنس والعفة، وكيف قد لا يكون أي من هذا خطأ بالمطلق.

على أن لابراكساس -كما لكل الآلهة- من يفضله من البشر، ليس الصنف المتعبد “العادي” القانع والمطيع دوماً للأوامر المنقوشة في كتب وأذهان عمرها تجاوز الألف عام، بل صنف آخر، فريداً ومتوقداً بالفضول و شجاعاً.

حيث أن ابراكساس لا يهمل أياً من أفكارك أو أحلامك، لا تنسى ذلك أبداً إلا أنه سيتخلى عنك في اللحظة التي تصبح فيها عادياً وبريئاً، سيتركك عندها ويبحث عن وعاء خمر آخر يخمر أفكاره فيه.

حالما ينضج ابراكساس ومعناه في رأس سنكلير، يقع في شيء آخر سحري، 

ايفا

ايفا الأنثى المقدسة، والدة دميان، المثيرة لغرائز سنكلير وروحه معا، أنثى غير متقدمة بالسن لكنها توحي بحمل حكمة من مئة ألف عام، رمزت للماضي والحاضر ولعلها أصعب شخصيات الرواية كتابة وقراءة. 

أرى فيها كعادة الكاتب الدمج بين المتناقضات الكثيرة لجعل من يقرأ يعي أن لا ضرر في قبول النقيضين معا وعدم الإنحياز نحو جهة واحدة ووصم الأخرى بالخباثة، فلا بأس بالبحث عن حرية الإنسان للتواصل مع الكون والآلهة حتى لو عنى ذلك كسر قوانين الأخيرة، على الأقل القوانين الموجودة في الأديان القديمة. 

إذاً… ما المغزى من دميان؟ 

ما هو الهدف من استعراض الشخصيات هذا؟ ماذا يحاول أن يقول الفيلسوف الألماني المخادع في كتابه الصادر نهاية الحرب العالمية الأولى التي تزامنت مع فترة متوترة من حياته؟ 

أعتقد أن الإجابة على هذا السؤال تتضمن منحيين. 

الأول، بالطبع، شخصي للغاية وتعلق بتجارب الكاتب الحياتية المختلفة، ربما لم تكن انطباعاته المباشرة هي تلك المكتوب في دميان، لكن على الأقل قد يكون شكل الآراء المذكورة من خلال إعادة التفكير بما مر به عندما وصل لهوية فكرية محددة.

برأيي يمكن للكثير ممّن نشأوا في بعض المجتمعات العربية الشعور بالترابط مع قصة طفولة وشباب ايميل سنكلير، البيئات المحافظة عموماً، الخير والقيم وعباءة التقاليد التي تخفي مساوئ لا يمكن انكارها، يلي هذا النضج ومن ثم الاكتشاف التدريجي لمدى سعة هذا العالم ومتناقضاته وكذلك قيمة الفردانية البشرية فيه، ربما هذا ما جعل الرواية قريب لنفسي نوعاً ما. 

إن لم نكن إلا كائنات بشرية فريدة، واذا كان من الممكن إنهاء حياة كل واحد من برصاصة، فإن حكايات القصص ستفقد كل هدف لها.

لكن كل إنسان أكثر مما هو نفسه، إنه أيضاً يمثل النقطة الفريدة، النقطة الخاصة جداً والهامة دائماً والمتميزة، التي تتشابك عندها ظواهر العالم، الأمر الذي يحدث مرة واحدة فقط بهذه الطريقة ومن ثم لا يحدث بعدها أبداً، وهذا ما يجعل قصة كل إنسان فريدة وهامة وخالدة ومقدسة، في كل فرد تحولت الروح إلى لحم وفي كل إنسان يعاني الخلق، وفي كل شخص يثبت الفادي على الصليب بالمسامير.

أمّا المنحى الثاني فغالب الظن عندي أنه ما يحاول هرمان هيسه قوله للقراء مباشرة من جهة، ورؤيته للتحولات القادمة على الأجيال التي ستقرأ وتعيش أعماله من جهة أخرى.

فهو لا يرفض التاريخ ولا الأديان بابتذال منفر ولكنه، وبشكل ثوري، على الأقل حينها في أوروبا بدايات القرن العشرين- وما يعتبر ثورياً كذلك في مناطق أخرى حتى الآن- رفض تفضيل الأفكار الثابتة المقدسة وعدم إعادة النظر فيها كما يهوى كهنتها واستعمال هذه الأفكار وتناقلها كما تتناقل الببغاوات شتائم مربيها، بطريقة جارحة عديمة المعنى، حيث أنه لم يرفض القصص دائما بل رفض التأويل القديم -وهذا عند الكثيرين سبب كافي لوصمه بالهرطقة- وطالب بإعادة النظر فيه. 

قصص مغرقة في القدم كهذه هي دائماً قصص صحيحة،ولكن ربما لم تكن تسجل بشكل صحيح ولم تكن تعطى التفسيرات الصحيحة.

وأراد كذلك قبول الاختلاف والبشر المختلفين، أي نادى بالحرية، الحرية الحقيقية للفكر والسلوك والجسد، الحرية التي تقود للسلام لا للحروب المبنية على إيديولوجيات لا يدرك أغلب معتنقيها الطبيعة الأصلية لأفكارها -المقيتة  والدموية في أحيان كثيرة- بل كل ما يريدونه هو مثل أعلى ليموتوا لأجله، بالطبع ليس مثل أعلى اختياري، بل هو من النوع القابل للمشاركة، كفكرة الوطن الأم أو حتى التفوق المبني على أساسات عنصرية، كون هذه التجمعات تمنح الناس نوعاً من النشوة على الرغم من بشاعتها، كما تفعل الانتصارات في الحروب. 

قد تكون كل الأفكار المذكورة في الأعلى صحيحة أو خاطئة، وقد يكون دميان محاولة لتفريغ اضطرابات فكر كاتبه أو السمو النهائي لأفكاره حول الذات والكون، لكنه يبقى كتاباً مثيراً للاهتمام بشدة، بجرأته وزخم أفكاره وقوة نسيجه، وتجربة قراءة فريدة.

كريم برغوث

كريم برغوث

المقالات: 4

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *