جاءت قراءتي لرواية ليون الإفريقي لكاتبها أمين معلوف في وقت يعيد فيه أبناء وطني التفكر بهويتهم وانتمائهم الثقافي، في وقت قد تشتت فيه الشعب السوري في بلاد المهجر. وكثير أولئك الذين وجدوا أنفسهم تحت ظل ثقافات جديدة وحضارات يعيشون بكنفها بعد تركهم لوطنهم الأم.
وفجأة! يظهر أمامي أنموذج يقدمه معلوف من عمق التاريخ، هو الحسن الوزان أو ليون الإفريقي، تلك الشخصية التي لا انتماء لها أو تنتمي إلى العالم أجمع، تلك الشخصية التي ختنت مسلماً وعمّدت مسيحياً. الشخصية المعضلة التي أراق القراء العرب في مدحها أو ذمها مداد الحبر، فتارة يتهموا الكاتب والشخصية بالانسلاخ والعمالة والخيانة، وتارة يثنوا على قدرته بالتأقلم وسعة صدره وتحرره من القيود القومية والثقافية.
هي الشخصية التي ولدت في وطن مفقود، هو غرناطة الأندلسية ليهجرها ليون في طفولته متجهاً إلى فاس برفقة آخر الغرناطيين.
وإني أعتبر نفسي محظوظاً في كل مرة أنهي بها إحدى كتب معلوف فلطالما أعجبتني تلك الراية التي يرفع فيها ثنائيات الأدب والتاريخ، الشرق والغرب، الماضي والحاضر.
عن ليون الإفريقي
ليون الإفريقي رواية لكاتبها الفرنسي من أصول لبنانية أمين معلوف. نشرت عام 1986 باللغة الفرنسية، وصدرت ترجمتها باللغة العربية عن دار الفارابي عام 1997.
هي رواية تاريخية من أدب الرحلات، يحكي فيها الحسن الوزان أو ليون الإفريقي على لسانه ما صادف من أحداث القرن السادس عشر، تُعرض الرواية للقارئ بضمير المتكلم كسيرة ذاتية متخيلة لشخصية ليون الإفريقي الذي ولد في فترة سقوط غرناطة ليغادرها برفقة أسرته وآخر الغرناطيين إلى مدينة فاس في المغرب العربي.
ينخرط الوزان أو ليون في أعمال التجارة تارة والسفارات الدبلوماسية تارة أخرى أو يُحكم بالنفي ويقع بالأسر، وهذا ما جعل وطنه هو القافلة حسب وصفه، وانتمائه هو العالمية والترحال.
يقسم الكتاب إلى أربعة كتب رئيسية هي كتاب الأندلس، كتاب فاس، كتاب القاهرة، وكتاب روما. كما تعنون الفصول باسم أبرز الأحداث أو الشخصيات في عام كتابة ذلك الفصل.
وبالطبع فإن أبرز حدث في الرواية وجوهرها لما يعود الحسن الوزان من رحلة الحجّ فيتعرض للأسر من قبل قراصنة صقليين ويقتاد إلى روما، فيتم تعميده من قبل البابا ليون العاشر باسم يوحنا ليون دومديتشي أو ليون الإفريقي.
وكما ذكرت آنفاً فإن شخصية ليون الإفريقي شخصية حقيقية عاشت فترة شديدة الحرج في القرن السادس عشر وقد تركت خلفها كتاب “وصف افريقيا”. تعرف عليه العالم العربي بعد أن قدمه المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون إلى النور بكتابه لوحة جغرافية لليون الافريقي سنة 1906.
معضلة معلوف، الإنتماء والهوية
قد لا يروق للبعض طريقة توظيف معلوف التاريخ لمصلحته وليّ عنقه بما يناسب فكرته عن الهوية والانتماء. قد يكون هذا فيه شيء من الصحة، إلا أنني لا أستطيع أنكر، إن معلوف من أفضل كتاب الرواية التاريخية في العالم وهو بارع في هذا بسرد شائق وحبكات سلسة ولغة جميلة تناسب الرواية التاريخية.
إلا أن كثيراً من القرّاء كان لديهم وقفات مع التجاهل التام للأسئلة النفسية التي غابت تماماً عن سيرة ليون في مواقف حرجة، كاللحظة التي تحول فيها ليون من الإسلام إلى المسيحية، بل وخدمة البابا والكنيسة بتفان.
هي فكرة معلوف ذاتها عن الهوية، بتحويلها إلى ما يشابه المعلم الجغرافي أو الرمز السياسي، تحويلها إلى حالة ثقافية يمكن استبدالها بسهولة لا إلى إيمان واعتقاد. هنا كان لبعض الجمهور رأي بأن معلوف قد تحيز أدبياً لفكرته ليقدمها معلبة جاهزة إلى العالم، ألا وهي الهوية العالمية المتحررة من نير القوميات والجغرافيا والدين والثقافة. ومعضلة الهوية والانتماء هي ذاتها التي شغلت معلوف في مؤلفاته الأخرى مثل الهويات القاتلة والتائهون.
خلاصة الرحلة
شهدت رحلة ليون الإفريقي التي استمرت أربعين عاماً أحداث مفصلية عاشها العالم. فسقوط دولة المماليك في الشرق لتصعد الدولة العثمانية، وسقوط روما في الغرب على يد الجرمان. وحقاً أرغب أن أقف على ردة فعل كل قارئ بخصوص هذا الرحالة وما عاشه من تجارب، ما هو موقف القارئ من هذا الرجل المعضلة، ذلك المسيحي المسلم، الإفريقي الرومي العربي الأندلسي الجركسي.
ففي رحلتك على ظهر الناقة برفقة ليون، يتردد في صدرك حيرة لذيذة بخصوص تكوين موقفك الخاص تجاه هذا الرجل، أو ربما رواية ليون الإفريقي تدفعك إلى إعادة النظر والتساؤل بخصوص هويتك الخاصة والانتماء الذي تركن إليه.
هو ليس عربي، بل أمازيغي من شمال إفريقيا