ما بين رسم كائن ذو ملامح إنسانية لا تستطيع أن ترى فيه بشراً وبين صرخاتٍ ضد المجتمع، كمفهومٍ وكيان، يصف أحد أبرز أدباء اليابان آلام الروح البشرية التائهة بفعل التعقيدات الاجتماعية الحديثة والقديمة على حد السواء من خلال شخصية كريهة ظاهرياً وباعثة على التأمل من حيث الجوهر، فماذا كان دازاي المُنتحر سنة 1948 يحاول أن يقول؟ وكيف استطاع فعل ذلك ومن ثم تخليد اسمه في الذاكرة الأدبية اليابانية؟
ومن هو يوزو بطل روايته؟ وكيف صُنع؟
التصوير الشكلي
كانت الصفات الجسدية للبطل مهمّة في رسم هذه الرواية وإحداثها التأثير النفسي المطلوب للقارئ، مهمّة كفاية لإفرادها بمقدمة الكتاب ورسم شخصية (يوزو) من خلال صورٍ ثلاث.
الصورة الأولى لطفل عادي ذو تعابير مقيتة، المصطلحات المذكورة لم تكن من النوع الذي يوصف فيهِ الأطفال عادةً، إلّا أنّ هذا الوصف كان هنا ضرورياً. لم يكتفي دازاي بالقول بأن الطفل كان قبيحاً فحسب بل استخدم أوصافاً معينة لرسم مخلوقٍ يشعر القارئ بالرعب، حيث دمج البشاعة واللطف في وصفِ طفلٍ يحمل تجاعيد شيخ.
في الصورة الثانية ينقلب الموقف لوصفِ شابٍ غير محدد العمر غريب الجمال، لكنه جمالٌ مرسومٌ على وجهِ صاحبه، جمالٌ مزيف بابتسامة مزيفة تترك القلب مملوءاً بالإنزعاج والتوتر.
وبالوصولِ إلى الصورةِ الثالثة فقد تجردت تماماً من المعالمِ حسب وصف الراوي، وأضحت تمثال رأس تمثالٍ خشبي” كانت ملامح عادية لا مميزاً فيها، لا يمكن تذكرها عند إبعاد النظر عنها، ولعل هذا العادي هو ما أنكره دازاي على البشر وعلى المجتمع الياباني على حد السواء، المجتمع الذي عرف بتقاليده الصارمة في تلك الفترة، حيث أظنه يشير إلى أن القواعد الاجتماعية الأشبه باللوائح القانونية الجامدة تمحي شخصية الفرد وتدفعه نحو السقوط عن كونهِ إنساناً، هذه الإشارة كررت مراراً بصيغٍ مختلفة ومعنى واحد لا يتغير، مما يقودنا لنقاش النقطة التالية…
المشاكل النفسية، مرض فردي أم انعكاس لضغوطات الحياة
إن أي قراءة نفسية لشخصية يوزو كافية لتأكيد أنها مصابة بما يسمى اضطراب الرهاب الاجتماعي منذ الطفولة، يشار إلى ذلك وضوحاً في العديد من المقاطع بترميزاتٍ مثل “أخاف من أشباهي” من الصفحات الأولى للكتاب، يتبع ذلك توضيح تطوير هذه الشخصية نوعاً من الاكتئاب يُتبع بالإدمانِ على الكحول، أو ربما يُسبق بهذا الإدمان ويكون ناتجاً عنه، حيث أن العالم (أو صورة هذا العالم) مخيف.
يدفعه ذلك نحو الإدمان واللذاتِ المؤقتة الأخرى، آلية دفاعية نفسية مُعيبة يستخدمها العقل للتكيف مع مشاكله، أو بالأصح لتجنبها وإبعاد نفسهِ عن الضغط، يقول العديد من الشبان الذين يحيون في بعض مناطق البؤس في العالم وخرجوا منها أو ما زالوا، أنهم استخدموا بعض هذه الوسائل لنسيان هذا البؤس (والذي يرادف العالم بأكمله عند يوزو) حينما ينعدم الأفق، لن أخرج عن سياق الرواية لكي أناقش هذا الآن.
ذكرت أعلاه احتمالية كون صورة العالم في عقل يوزو هي المسؤولة عن خوفهِ لا العالم بذاته، يبدو هذا منطقياً أكثر عند الحديث عن اكتئاب ابن عائلةٍ ثرية ذو تعليم جيد ومستقبلٍ مضمون، ولتوضيح هذا نستطيع أخذ مثال اضطرابات القلق والاكتئاب وعلاقتهما بمعاناته، ببساطة قد كان محور مشاكله هو كيفية رؤيته لذاته وللعالم، بالحديث عن نظرته الذاتية فقد كانت في أشد حالاتها بؤساً وهذا عرضٌ طبي واضح وشائع بحالات الاكتئاب حيث ينظر المريض لذاتهِ نظرةٌ دونية تملؤها مشاعر الذنب ويدعمها نظرته الأخرى عن العالم، حيث أظن أنه كان يراه ككيان واحد متوحش ذو معايير قائمةٍ على المادية والنفاق ومتخلية عن المشاعر الإنسانية.
“كنت الوحيد الذي تشوه وجهه ابتسامة”
والوصف السابق قد يشبه فعلاً المجتمع الياباني قبل الحرب العالمية الثانية، وحتى اليوم بعد تحول اليابان إلى دولة حديثة وأحد أضخم الاقتصادات في العالم وآلهةِ التقدم التكنولوجي، تشير التقارير إلى أن هذا الثراء الفاحش قائم على شركات تستخدم موظفيها بما يتجاوز طاقاتهم، وتكريس عقلية تهتم بالانتاجية قبل كل اعتبار، مع أحد أعلى نسب الموت الناتج عن فرط إجهاد العمل والانتحار في العالم.
ربما هذا ما يجعل دازاي محبوباً وأيقونياً حتى اليوم في اليابان، نظرة الشبان القائمة على الارتباط مع الشخصيات في أعماله، الحديث عن فقدان الهدف والشغف، الشعور بالدونية بالمواجهة مع ما ينظر إليه على أنه الصحيح في المجتمع، المادية وتقييم الفرد بممتلكاته وفكرة “لا مال إذن لا حب” ، الأفكار الانتحارية والرغبة بالموت، ربما مناقشة كل هذا تجعل من يعانيه يشعر بنوع من الأمان لأنه “ليس المنبوذ الوحيد” ولأن الحديث عن أنه لم يعد إنساناً هي ليست تقييماً حقيقياً للبشر، بل أن المجتمع هو من فقد إنسانيته.
“فالألم الحقيقي كان في القدرة على اتخاذ قرار بالانتحار، لعله الألم الأكثر حدة، لعله الألم الذي يشبه واحداً من عذابات الجحيم الأكثر عمقاً”
وبالطبع، لم يكن وصف دازاي الدقيق للمشاكل النفسية والإدمان وصف مراقب خارجي محايد، بل أنه كان متأثراً فيها حد الصميم، ربما كانت بداية اضطراباته عندما قام معبوده، وأحد أبرز كتاب اليابان “ريونسكي اكتاغاوا” بالانتحار عام 1927.
مما سبق أرى أن دازاي لم يكن متعاطفاً على الإطلاق مع شخصية يوزو، بل ربما تعمد إظهارها بشكلٍ مقيت، سواء كان هذا نتيجة مشاكله النفسية وإسقاطها على شخصياته أو لإظهار تأثير المجتمع المدمر لشخصية الفرد أحياناً، إلا أنه لم يتوانى عن غرز أنياب أدبه في جسد المجتمع ذاته، واصفاً أياه بأنه انعكاس الرغبات الأنانية لبعض أفراده -ربما قصد الإشارة إلى أصحاب المال على وجه الخصوص- وعندما يصل إدراك يوزو إلى هذه النقطة، إلى أن مشكلته لم تكن بأنه مختلف عن الآخرين، أي عن المجتمع ككل، بل أن هذا المجتمع هو لا شيء سوى أفراد تكتلت رغباتهم على بعضها، وأن ما يواجهه هو أفرادٌ مثله وليس كياناً أضخم، ليس العالم، يبدأ بالتحسن.
-هذا لا يسمح به الناس، العالم
-ليس العالم والناس، ألست أنتَ الذي لا تسمح به؟
-عندما نفعل شيئاً مماثلاً، فإن العالم يلقننا درساً فظيعاً.
-ليس من العالم نتلقى هذا الدرس، بل منك
-لن يتوانى العالم عن دفنك
-ليس العالم، بل أنت الذي تريد دفني
التكافل العاطفي والدعم والتغيير الاجتماعي.. الحل الألطف لدى دازاي
في حالة شخصية يوزو، وفي أحيان كثيرة شخصية الفرد في اليابان أو في المجتمع المعاصر المادي عموماً، حيث قد يقاس الفرد بأمواله ويعامل على أساسها، مما يشكل بيئة خصبة للتساؤلات الوجودية القلقة حول قيمة الذات ويمهد للاضطرابات النفسية، يشير دازاي في مواضع مختلفة لطرق التعافي.
الموضع الأول، عندما يذهب يوزو للشرب في أحد المقاهي وينبئ النادلة أنه لا يكاد يمتلك أي أموال، فتجيبه بهدوء:
لا تهتم، ولا عليك.
يحدث هذا في قلبه أثر أفضل من الكحول التي قدم لشربها في المقام الأول، لقد وافقت عليه، لقد قبلت به دون النظر إلى ما يملك، إذا كان حباً فلم يكن حباً مشروطاً، ففي نظره هو لم يكن كائناً جيداً كفاية ليستحق الحب خصوصاً من دون أموال، ومع ذلك، رضيت به على ما هو عليه، وهذا ما منحه جزئياً السلام والرضى، الشعور باستقلاله عن المادية، الشعور بإنسانيته.
شربت الساكي وأنا مطمئن البال، لم تعد بي رغبةٌ لتمثيل دور البهلول، ودون السعي لإخفاء طبيعتي الحقيقية، الموحشة الصموتة، كنت أشرب بصمت
أما الموضع الثاني فيكون عندما وثقت فيه شابة صغيرة، يافعة عذراء، وعدها بالكف عن الكحول ووقف أمامها في اليوم التالي مخموراً، فكذبت عينيها وصدقت وعده السابق وطلبت إليه التوقف عن التمثيل والمزاح.
يبدأ بالإحساس في هذين الموقفين بأنه يصلح ليكون إنساناً، حيث يشعر بالقبول وبالجدارة، بغض النظر عن ماضيه وأمواله ومؤهلاته الأكاديمية وما شابه، تلكم التي تشكل ضغوطاً خيالية في العديد من مجتمعات اليوم، ويشير بوضوح لأهمية المشاعر البشرية لمساندة من لا يمكن الأموال مساندتهم، من يؤمنون بالأرواح والأشباح والمشاعر، وفي ظل سلطة قانونية قائمة على الأعراف والتقاليد، يكون تحطيم القواعد متنفساً.
المخالفة القانونية كانت تمنحني شعوراً غامضاً بالرضى، ما كنت أحبه فيها أنها كانت تريحني، وذلك على نقيض القانونية السائدة في العالم والتي كانت تريعني
كمحصلة
كل ما سبق هو مجرد نظرة شخصية لعمل أدبي خالد، تحتمل الصواب أو الخطأ ولا تهدف لنقاش مجتمع ما بكامله لاستحالة فعل ذلك من خلال رواية، بل الهدف هو فهم ما تحاول الأخيرة قوله وكذلك سر شعبيتها الجارفة على الرغم من سوداويتها وما احتوته من قبائح، أن صح التعبير.
حيث أن هذه الرواية كانت قطعاً متوحشة، تعرض وتكشف اللثام عن شرور مدمرة للنفس البشرية وصادرة عنها في الوقت ذاته، قد تكون نابعةً من رغبات أفردٍ آخرين صاغوها على شكل (أعراف اجتماعية)، أمَّ عن هوية هؤلاء قد يكونون إقطاعيين وأصحاب ثروات أو ذوي نفوذ، أو أناسٍ قد ماتوا منذ قرون تاركين وراءهم “تقاليداً وعادات” وربما قد لا يكون هناك أحد على الإطلاق، ليقع عندها اللوم على عاتق المجتمع والفرد الذي وافق أو استسلم ليتم ابتلاعه في منظومة لا يهمها إلا الذهب.